وائل الدحدوح- فاجعة غزة في عين صحفي صابر

إن البلاغة، كما سطّرها فحول البلاغيين، هي توافق الكلام مع مقتضيات الأحوال، ورغم أن الأحوال قد تغني عن أي تعبير، إلا أن الكلمات تعجز عن إيفاء أهل غزة حقّهم، وفي طليعتهم الزميل وائل الدحدوح، ولهذا أخطّ هذه السطور دون عنوان.
لطالما كانت جدّاتنا تدعو لنا قائلات: "الله لا يفجعكم بعيالكم في حياتكم"، فما من أرزاء أو مصائب تضاهي هذه الفاجعة، وأعظم الخسائر قاطبة هو فقد الولد، قرّة العين، و"روح الروح"، كما يصف أهل غزة فلذات أكبادهم.
مع بداية هذه الحرب الطاحنة، أطلّ علينا وائل الدحدوح، وكانت أول قذيفة تدوي بالقرب منه شخصيًا كفيلة بأن تمزّق قلوبنا، وتطيح بنا خوفًا عليه. لكن بكل رباطة جأش - وبعد فترة وجيزة لم تكن لاستجماع قواه، بل لإصلاح المعدات - عاد إلى الشاشة مباشرةً لنقل الحدث بكل هدوء وثبات، دون أن يعلم هو أو نعلم نحن أن تلك القذيفة، لو أصابته، لما كانت المصيبة أعظم من سلسلة المصائب التي تلتها.
واصل وائل تغطيته الميدانية.. وفي المقابل، صعّدت إسرائيل من قصفها الوحشي. مع كل صاروخ وإستهداف يغطيه وائل، كان يحفظ المواقع والأعداد بدقة مذهلة، ويتحدث عن جغرافيا المكان وطبيعة الناس فيه، ثم يصف تبعات القصف وعدد الشهداء، بأسلوبٍ سردي اعتاده وأتقنه على مر الأيام، حتى بات يقول، في بداية كل مداخلة: "الحال كما هو عليه.. قصف، ثم استهداف، ثم استشهاد نساء وأطفال". يروي الحكاية التي لم يتوانَ عن سردها أو ذكرها.
واستمر الحال بوائل وغزة.. ينقل أخبارها وكأنه يواسيها ويواسي أهلها، بل يواسي العالم العربي المتخاذل بكلماته ومداخلاته المؤثرة، حتى طال القصف قلب وائل نفسه: زوجته وابنه وحفيدته.
غادر وائل الآن موقع التصوير، ومن خلفه الصحفيون، ولكن هذه المرة ليس ليحكي الحكاية، بل لتُروى عنه الحكاية.
قصف.. استهداف.. استشهاد نساء وأطفال.. والعاجل: استشهاد زوجة وائل الدحدوح وابنه وحفيدته.
"معلش"
كانت هذه الكلمة هي أنين وائل، وتأوّهه، وصرخته المدوية.
"معلش" قالها، وهو يودّع ثلاثة أجيال من غزة، تجسّدت في عائلة وائل الدحدوح:
جيله الماضي في زوجته. وحاضره في ابنه. ومستقبله في حفيدته.
ثم عاد وائل من جديد، ممسكًا بميكرفون الجزيرة، يحكي الحكاية ويروي القصة. قذيفة الجوار - التي أخطأته في المرة الأولى - أصابته هذه المرة، ومعه سامر أبودقة، المصور المرافق له، فتمكن وائل من النجاة بأعجوبة، بينما ظل زميله ينزف حتى لفظ أنفاسه الأخيرة.
مات سامر، ولم ينتظر وائل هذه المرة طويلًا، بل خرج من على سريره، وهو مقيّد بأنابيب المحاليل.. يحكي الحكاية ويروي الخبر، كيف كان في قلب الاستهداف، ثم فقد رفيق دربه وزميله، وكاد أن يفقد روحه التي تمزقت أسىً على زوجته.
نهض وائل وعاد ليكمل.. الإرهاق بادٍ على وجهه، والأفق ممتلئ بالأشلاء، والطرقات تعج بالجثث التي لا تجد من يواريها الثرى، ليستمر وائل في رسالته التي وصفها بأنها "قدره واختياره".
حمزة
الولد الأكبر، رفيق أبيه، ورفيقه في كل تغطية، والملازم له بِرًا وتتلمُذًا على يدَيه. الفتى امتهن الصحافة، والتغطية بأمسّ الحاجة إلى الشباب من أمثاله، فقام وغطّى ونشر وصوّر وحكى، وكانت من بين الصور والحكايات، حكاية أبيه الماثلة أمام عينيه، مثالًا حيًا يُحتذى به ويُقتفى أثره.
يخرج وائل للتغطية، يحكي حكايته التي ألفناها، ولكنه لم يألف القصف.. الاستهداف.. الاستشهاد. هذه المرة سيارة.. وفجأة جاء النبأ المشؤوم: استشهاد حمزة وائل الدحدوح.
حين وصل وائل إلى جثة حمزة، أول ما أمسك به هو يداه، يقلّب في أصابعه، وكأنه يريد أن يقول له: ألم أفعل لك ذلك حين وُلدت؟ حتى أسمع صوتك ولو بصرخة، لِمَ لا تكررها الآن يا حمزة يا ولدي؟
لكن الحيلة لم تُجدِ نفعًا يا ولدي، استشهد حمزة وأيقن وائل بذلك.
إذًا فالوداع.. تفوّه بها ولا تخجل يا وائل.
بل قال: السلام أمانة يا حمزة: سلم على أمك. على أخيك. على أخوالك وأعمامك.
"وإنا لله وإنا إليه راجعون".
ما هذا يا وائل؟ إذا كان حمزة الشهيد سيسلم على كل هؤلاء من أهلك الشهداء، فعلى من ستسلم الصغيرة خلود التي بقيت معك يا عزيزي؟
تقريبًا لا أحد
لقد ودّع وائل تقريبًا كل عائلته، ثم لم يمضِ سوى دقائق حتى أمسك بميكرفون الجزيرة، متجاوزًا مشاعر المذيعة التي كادت أن تنهمر دموعها من إصراره على التغطية، لتسأله.. فيجيب متمالكًا نفسه، متكئًا على جرحه النازف، ثم يقول ويروي الحكاية بكل هدوء: قصف.. استهداف.. استشهاد نساء وأطفال.
فهل هناك في غزة - على هذا الرصيف بعد أن سُوّيت معظم مبانيها بالأرض - من هو أشد صبرًا منك يا وائل؟
أسأل الله أن يكتبك من الصابرين، وأن تكون نهاية هذه الحرب بكلمة تلقيها علينا قائلًا: نعم، لقد توقفت الحرب، وتم وقف إطلاق النار.
